بقلم: د. معن النقري
نرى أن النظام الاقتصادي في العالم لم يصبح عالمياً إلا في أواسط القرن العشرين مع إنشاء هيئة منظمة الأمم المتحدة ومنظماتها المتخصصة العددية،
ومع اتفاقات بريتون وودز وإنشاء صندوق النقد الدولي والبنك العالمي وسكرتارية الغات لرعاية الأركان الثلاثة الرئيسة للنظام الاقتصادي العالمي: النقد والمال والتجارة ـ على التوالي. وترافق ذلك كله مع تشكّل واستشراء الشركات فوق القومية: متعددة الجنسيات أو القوميات، ثم متعدية (أو عابرة) الجنسيات أو القوميات، وما لها من نشاطات وتأثيرات عالمية بعيدة المدى في جميع المجالات. إضافة إلى عمليات وظواهر أخرى عالمية فعلاً اقتصادية وأكثر من اقتصادية.
أما ما قبل منصف القرن العشرين فلا نعدُّه أكثر من نظام اقتصادي دولي مرتكز إلى علاقات اقتصادية دولية/ أممية (بين الدول والأمم) كانت قائمة قبلئذٍ أيضاً عشرات ومئات السنين.
ومنذ نهايات الستينيات وبدايات السبعينيات بدأت تشكلات النظام العالمي في الاقتصاد تشهد إرهاصات ولادة نظام اقتصادي كوكبي، بما يعنيه ذلك من أشياء كثيرة لا تقتصر على التمدد الجغرافي اقتصادياً على مستوى العالم في بنية الفعل الاقتصادي العالمي وآلياته، بل وتشمل الأبعاد العالمية البيئية/ الطبيعية للأرض (لكوكبنا) وجميع مكوناتها البشرية وغير البشرية، المجتمعية والطبيعية معاً، وما عناه ذلك منذئذٍ من دخول اقتصادات البيئة والديمومة أو الاستمرارية أو التنمية المستدامة ساحة الفعل الاقتصادي العالمي، ومستجدات نوعية أخرى لا مجال للتفصيل فيها الآن. والمهم أن بدايات الثلث الأخير من القرن العشرين شهدت توجهات إضافية نحو عولمة النظام الاقتصادي الدولي والعالمي المركّب القائم فعلاً، وبالتالي اتجاهه نحو كوكبة واضحة وصريحة ليزداد، اتساماً والتصاقاً بعلائم النظام الاقتصادي الكوكبي بصورة متسارعة على مدى عقود نهاية القرن العشرين.
وأما مرحلة التسعينيات فلم تُضف أشياء مميزة ومعتبرة إلى توجهات العولمة والكوكبة التي بدأت وانطلقت قبل ذلك التاريخ، وكانت سائرة بعنادٍ واستمرارية لم ولن تغير فيها كثيراً مواصفات الأنظمة الاجتماعية التي تحول بعضها من الاشتراكية إلى الرأسمالية والليبرالية. باختصار لدى الحديث عن نظام اقتصادي جديد يجب علينا التفريق جيداً بين التسميات والمراحل الكبرى التالية: النظام الدولي ـ النظام العالمي ـ النظام الكوكبي.
في مجال الاقتصاد، والمحطة الرئيسة الكبرى هي منتصف القرن العشرين: ما قبل وما بعد. وكي يكون الكلام أكثر وضوحاً وصراحةً فإننا نعدّ الحديث عن نظام اقتصادي دولي جديد مؤدياً أساساً إلى، أو مكافئاً للحديث عن، نظام اقتصادي عالمي. كما أن الكلام على نظام اقتصادي عالمي جديد يقود إلى، أو يكافئ، الكلام على نظام اقتصادي كوكبي. ولا مجال لعكس هذه المراحل: إنها لا عكوسة بل خطية. أما ما نشهده من تسيب ومن لا مسؤولية مصطلحية وفكرية في الحديث عن نظام دولي تارة، في الاقتصاد، وعن نظام عالمي تارة أخرى، بلا تفريق ولا تمييز لا من حيث الموضوع ولا من حيث الزمن والتاريخ، فهو ما لن يقودنا إلا إلى مزيد من الفوضى والتخبط في الآراء وفي الرؤى، وهو ما لن يساعدنا على حل أي إشكالية بصورة مقبولة ولائقة.
نورد هنا نموذجاً يقدمه د. كريم نعمة النوري+ لما يتصوره ويسميه على أنه (المراحل التاريخية الرئيسية) التي مر بها (النظام الاقتصادي العالمي الجديد): هكذا هو يسمي الأمور أيضاً بالتوثيق. ومن البداية نستطيع الاعتراض على استخدام تسمية واحدة مبسطة لمراحل عديدة من نظام يُفترَض أنه واحد أيضاً بلا تمييز ولا تدقيق، وليس هذا فحسب، بل والمسمى مرة بأنه عالمي وأخرى بأنه دولي بلا تفريق أيضاً بين دلالات الكلمات، أو بالأحرى بفرض ترادفها وتساويها دلالياً بصورة متعسفة وأينما كان!
يرى د. كريم نعمة النوري أن مراحل هذا النظام هي أربعة وكما يلي:
ـ المرحلة الأولى: بدأت في منتصف القرن التاسع عشر حتى نهاية الحرب العالمية الأولى.
ـ المرحلة الثانية: من نهاية الحرب العالمية الثانية إلى عام 1973.
ـ المرحلة الثالثة: من 1974 إلى عام 1990.
ـ المرحلة الرابعة: تمتد من 1991 إلى الوقت الراهن.
هذا ما نجده في كتابه (آفاق العولمة في البلدان النامية) (ص 3 ـ6)، (دار نشر أ. تسينوف البلغارية، عام 2005)، منذ صفحات الكتاب الأولى (ص 3 ـ6).
المرحلة الأولى: تميزت بتكامل المشروعات أفقياً ورأسياً، وبالهجرة من أوربا إلى دول العالم الأخرى، وبانتقال الرساميل. وكانت بريطانيا المصدر الأول للرساميل إذ أسهمت بـ 43% من جملتها، تليها فرنسا التي أسهمت بخمسها..إلخ.
المرحلة الثانية: وشهدت كما سبق أن بينّا ولادة مجموعة كبرى من الهيئات والمنظمات والمؤسسات الدولية ـ الشاملة (هكذا نسميها بمعنى عالمية أو ما يشبه ذلك م.ن)، أما د. النوري فيلفت الانتباه أيضاً إلى تطور مفهوم التكامل الاقتصادي الدولي في هذه المرحلة باعتباره من المفاهيم الحديثة في ذلك الحين التي كان (فاينر) سباقاً إلى استخدامها عام 1950، بمعنى تقوية العلاقات الاقتصادية في المجالات التجارية والنقدية والمالية، إضافة إلى المجال السياسي خدمة للاقتصاد.
ويرى د. النوري أن هذه المرحلة شهدت (البداية الحقيقية لتكوين النظام الاقتصادي العالمي) (ص4)، وهو محق تماماً في ذلك لو أنه عنى ما يقول فعلاً أو وعاه حقاً باستنطاق الدلالة الفعلية لكلمة العالمي والالتزام بها وتمييزها عن كلمة الدولي ودلالاتها، وهذا ما لا يتقيد به لاحقاً للأسف.
المرحلة الثالثة: وهي التي شهدت أكثر ما شهدت مطالبات ومساعي وإجراءات لتشكيل وإنشاء نظام اقتصادي دولي جديد، وخصوصاً من جانب دول عدم الانحياز والبلدان النامية إجمالاً، ولقيت طروح كهذه تجاوباً من هيئة الأمم المتحدة وجمعيتها العامة بإقرار وثيقتي:
أ ـ إعلان بشأن إقامة نظام اقتصادي دولي جديد.
ب ـ برنامج عمل لإقامة نظام اقتصادي دولي جديد. (ص 6).
(أميز هنا كلمة عالمي عن كلمة دولي في المرحلة السابقة، تماماً كما أوردهما وسماهما أصلاً د. النوري م،ن).
وهي مرحلة تميزت بسياسات الاقتصاد الحر وتغليب آليات السوق وتبني برامج موسعة للخصخصة والتخلي عن التخطيط المركزي والاقتصاد القيادي. (هكذا يسميه: (القيادي)، والمقصود أصلاً وفعلياً الأوامري: الاقتصاد الأوامري م.ن)، وإزالة القيود والحواجز أمام حركة التجارة الدولية وانتقالات الرساميل والاستثمارات وإنشاء التكتلات الاقتصادية، وبالتالي (زيادة الاتجاه، نحو عولمة الاقتصاد العالمي). (ص 6). لقد بدأت ظاهرة العولمة في الانتشار وعلى جميع الأصعدة والمستويات. ومن أهم خصائص النظام الاقتصادي الدولي الجديد (الدولي، وليس العالمي يقول د. النوري، وهنا التخبط مجدداً م.ن) هو التطور المستمر للاقتصاد نحو العولمة.
وكما نلاحظ تضيع منهجية التفريق بين الدولي والعالمي: فأي منهما يكون سابقاً تارة ويكون لاحقاً تارة أخرى، مع فقدان المعيار، ومع التخبط