الفصل الثالث: المؤسسات المالية الدولية والبطالة و دورها في تدمير الخدمات العمومية:
المبحث الأول: المؤسسات المالية الدولية و البطالة:
لا شك أن تطبيق "برامج التثبيت الاقتصادي والتكيف الهيكلى" المفروضة عنوة واقتداراً على الدول ذات الاقتصاد المشوه المعروفة إعلامياً بدول العالم الثالث، من قبل صندوق النقد والبنك الدوليين اللذين يعملان باسم المصالح الإمبريالية الرأسمالية العالمية لأعضاء ناديى باريس ولندن والدول الصناعية السبع الكبيرة، أسهم فى عولمة عمليات إعادة هيكلة الإنتاج، وتسييد أشكال وعلاقات الإنتاج غير المتناغمة معها، وتسريع إدماج اقتصادياتها فى المنظومة الرأسمالية العالمية الجديدة، والانخراط فى آلياتها، والحيلولة دون أى دور اشتراكى تنموى، مع تعضيد ودعم سياسات الدولة القمعية- التسلطية فحسب؛ من أجل توفير المناخ الملائم لتطبيق هذه السياسات، وتفعيل الأدوار المنوطة بها من قبل الشركات متعدية الجنسية؛ وذلك لإطلاق الحرية كاملة لرأس المال المحلى والأجنبى فى الاستثمار والنشاط التجارى وهو ما أدى -بالطبع- إلى اتساع دائرة الفقر، والتضحية بالعدالة الاجتماعية، وتقليص حجم السوق الداخلية، وتراجع النشاط الاقتصادى، وتدهور مستوى التنمية البشرية،؛ نتيجة تخفيض الإنفاق الحكومى على الخدمات الاجتماعية، وارتفاع نسبة التفاوت الاجتماعى، مع تركيز الثروة فى أيدى حفنة قليلة من كبار الرأسماليين، وإلغاء دعم الدولة للسلع الغذائية الرئيسة؛ الأمر الذى أدى إلى تدنى الطلب والاستهلاك، واستفحال معدلات البطالة، وتسريح أعداد غفيرة من العمال والموظفين العموميين.
ويصر البنك وصندوق النقد الدوليان على تثبيت الأجور، وإطلاق العنان للأسعار، وإلغاء نظام تعيين الخريجين عن طريق وزارة القوى العاملة فى القطاعين: الحكومى والعام؛ وهو ما يفضى إلى نشوء حالة ركود اقتصادى فادح، فضلاً عن ضعف الطلب الكلى الداخلى، الذى ينعكس -بدوره- فى تراجع الإنتاج، وتدنى المحفزات الدافعة إلى زيادة إنتاجية العمل.
ولم يكتف الصندوقان بذلك، بل عمدا إلى فرض أجندة تستهدف إزالة القيود التشريعية التى تحول دون تحكمهما فى سوق العمل، وتُفضى إلى العصف بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية التى حصل عليها العمال بنضالاتهم وتضحياتهم الدؤوبة منذ منتصف القرن التاسع عشر؛ فجاء "مشروع قانون العمل الجديد" الذى يبرر الفصل التعسفى للعامل، وبإنهاء عقد عمله، على نحو ما هو مفصّل ومبين فى المادة (120)؛ بسبب ________________________________________
معتقداته الدينية والسياسية، ومواقفه النقابية. أو "إذا لم يقم بتأدية التزام من التزاماته الجوهرية" حسب نص "المادة 96"، وهى عبارات غائمة.. مطاطة الهدف منها تسويغ الفصل التأديبى.. أو "إذا قام بجمع نقود وتبرعات أو توزيع بيانات، أو جمع توقيعات، أو عقد اجتماعات داخل مكان العمل بدون موافقة صاحب
العمل، كما جاء فى "المادة 57". أو إذا أغلق صاحب العمل منشأته، أو بعض أقسامها، أو إذا قام بتقليص
نشاطها لأسباب اقتصادية، تعمّد إغفال ماهيتها، أو تحديد طبيعتها، فإنه يحق له إنهاء عقده دون تعويض، وفق ما تشير إليه المادة (199). أو إذا ارتكب خطأً جسيماً، لم يبين أركانه والمقصود به؛ حتى يتيح لنفسه تبرير ما هو مقدم عليه، على حد ما ذهبت إليه المادة (197). كذلك قضى مشروع القانون على أى دور يذكر "للجنة الثلاثية"، الذى نصت المادة (65) من قانون العمل الحالى رقم 137 لسنة 1981 على ضرورة إعماله وترسيخه، مؤكدة أنه (لا يجوز لصاحب العمل فصل العامل قبل العرض على اللجنة الثلاثية المشار إليها فى المادة 62، وإلا اعتبر قراره كأن لم يكن، مع التزامه بأجر العامل) وهو ما يستجيب لمصالح رجال الأعمال، وشروطهم الرديئة فى العمل، التى هى- فى حقيقة أمرها- صكوك إذعان وامتثال لسلطة رأس المال، التى تنتهج دائماً سياسة قوامها العمل على توفير عمالة رخيصة، مع الإخلال بالتوازن المعروف بين العامل وصاحب العمل، واحتفاظ الأخير بالحق فى تخفيض أجره كيف شاء، غير مبال بالاتفاقيات والمواثيق الدولية التى ربطت الأجور بالأسعار، وأقرت السلم المتحرك للأجور، ودون أن يعبأ بأن (العقد شريعة المتعاقدين، فلا يجوز نقضه ولا تعديله إلا باتفاق الطرفين أو للأسباب التى يقررها القانون) وفق ما أكدته المادة "147" من القانون المدنى، فجاء مشروع القانون ليمنح رب العمل سلطة تعديل العقد بصفة مؤقتة، وتكليف العامل بعمل غير متفق عليه، حتى لو اختلف اختلافاً جوهرياً عن عمله الأصلى، أو تخفيض درجته فى حالة تردى أوضاع المنشأة، وعدم صرف إعانة بطالة فى حالة فصله والاستغناء عنه، وإسقاط ذكر العاملين بالقطاع العام من سريان أحكام هذا المشروع عليهم؛ مما يعنى- والحال هكذا- تقنين إلغاء القطاع العام ضمناً؛ وهذه مخالفة دستورية، كما أعفى العاملين بالجهاز الإدارى للدولة، الخاضعين للقانون 47 حالياً، وخدم المنازل والعاملين الخاضعين لتشريعات مشروعات الاستثمار من تطبيقه عليهم أيضاً. وهذا ما لا يجوز قانوناً، ولا يمكن إساغة فهمه؛ حيث تتعدد التشريعات، وتتباين علاقات العمل، فى ظل منظومة قانونية واحدة!! بيدَ أنها سطوة رجال الأعمال والمال فى مصر، وقدرتهم ________________________________________
على التلاعب بالمصالح، وإهدار المكاسب، بل إلغاء دور القضاء فى حسم المنازعات، وحماية العامل من الفصل؛ فحلت اللجنة الخماسية محل محكمة أول درجة، وجاز للعامل طبقاً "للمادة 70" أن يلجأ إلى "اللجنة الخماسية" إذا فشل مكتب العمل فى تسوية النزاع ودياً خلال سبعة أيام، طالباً وقف تنفيذ هذا الفصل. وتضم "اللجنة الخماسية" قاضيين، وثلاثة آخرين من خارج تشكيل القضاء، يقوم بتعيينهم جميعاً وزير العدل، الذى يمثل السلطة التنفيذية التى أقرت مشروع القانون الجائر، فكيف يمكن الاطمئنان إلى سلامة حكمها، وعدم
مجافاته لصحيح الدستور والمواثيق والاتفاقيات الدولية!. ولمَ الإصرار على ضرورة لجوء العامل إليها بعد فصله فى ضوء هذه المحاذير، إثر إلغاء دور "اللجنة الثلاثية" التى كانت توجب عرض أمر الفصل عليها أولاً، وإلا صار أثره منعدماً، واستحق العامل صرف أجره بعد إعادته إلى عمله؟. وهل من معنى يذكر بعد ذلك للطعن فى أحكام "اللجنة الخماسية" أمام المحكمة الاستئنافية فى ظل هذا المناخ المعادى والملغوم، والحريص على سلب العامل حقه فى الاعتصام والتظاهر والإضراب والاحتجاج بأية صورة كانت؛ حتى لا يسعى إلى تغيير واقعه، وتحسين شروط الحياة من حوله؟.. من هنا؛ ربط مشروع القانون بين الإضراب ووسائل إعماله بوصفه (حقاً تمارسه المنظمات النقابية) فحسب، وفق نص المادة "193" منه، على أن (يصدر القرار بالإضراب بأغلبية ثلثى أعضاء مجلس إدارة النقابة العامة) كما رسخته المادة "194". كلنا يعلم إلى أى مدى ذهب تدخل الأجهزة الأمنية ونفوذها فى تشكيل مجالس الإدارات، وقيامها بتعيين نقابيين صفر موالين لها، بعد اضطلاعها بشطب أسماء القوى والعناصر الوطنية الديمقراطية والتقدمية من جداول الترشيح، وحرمانها من حقها الأصيل فى تمثيل جماهير العمال، والدفاع عن مطالبها المشروعة.. ومن ثم، لن يتسنى لها وهى تناضل من أسفل، أن تحصل على موافقة أعضاء مجلس الإدارة، على استخدام سلاح الإضراب وتفعيله فى مواجهة النظام لنيل حقوقهم المهدرة، ومعارضة مجمل سياسات وقوانينه اللاديمقراطية، التى غبنت مصالح العمال، وعبثت بمستقبلهم، فعمدت بنص "المادة 106" من "مشروع قانون العمل الجديد" إلى أنه (إذا انتهى عقد العمل محدد المدة بانقضاء مدته، جاز لطرفيه أن يجدداه باتفاق صريح لمدة أو لمدد أخرى) حتى يظل سيف الفصل والتشريد مسلطاً على رقبة العامل، فيخضع أكثر، ويقبل- عندئذ -كل الشروط المفروضة عليه؛ أملاً فى تجديد عقده، والاستمرار فى عمله الذى يؤمن له مبلغاً ولو ضئيلاً من المال.. وبالتالى يُحال بينه وبين إثبات علاقته بعمله هذا بكل طرق الإثبات المعروفة، ومنها التحقيق وشهادة الشهود، كما تقضى بذلك أحكام النقض والقوانين الراهنة. كذلك ألغى هذا المشروع علاوة غلاء المعيشة التى كان يحصل عليها العامل سابقاً، ونص على العلاوة الدورية،على نحو ما ورد فى المادة(2) من مواد الإصدار، وإن كان قد ربطها بقرارات منظِّمة يصدرها