من الدولة الكبرى إلى الدولة الصغيرة:
-1-I الوضع الدولي و تداعياته:
أدى الإنهيار المفاجئ للمعسكر الشيوعي في عام 1989م إلى دخول النظام العالمي مرحلة جديدة, تغيرت فيها معالمه و تعدّلت ثوابت الوضع الدولي التي سادت منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية, حيث أدى انهيار النظام ثنائي القطبية إلى تفرد الولايات المتحدة بالقدرة على السيـطرة, و توجيـه دقة الأمور على الصعيد العالـمي في مختلف المجالات (السياسية, الاقتصادية, الأمنية), الأمـر الذي أسفر عن خلل ملموس في التوازن الدولي الدقيق الذي خلّفتـه الحرب العالمية الثانيـة و سـاد طيلة فترة الحرب الباردة.
و طالما نتحدث عن التطورات التـي طرأت على توجهات النظام العالمي في أواخـر الثمانينات, فإنها لم تحدث فقط من جراء انهيار النظام الشيوعي, و لكنها أيضاً نتاج التغيـرات التـي اعترت الوضع الإقتصادي العالمي, و التي تمثلت في انهيار نظام "بريتـون وودز" لأسعار الصرف الثابتة و التحول إلى نظام أسعار الصرف العائمـة تحت الضغوط التي تعرضت لها الولايات المتحدة من الحلفـاء في أوائل السبعينات خاصة فرنسـا لرفضها الإحتفاظ بالدولار عندمـا أغلق الرئيس الأمريكـي نيكسون نافذة الذهب, و أنهى بذلك نظام بريتون وودز لأسعار الصرف الثابتة و طبـق بدلا منه نظـام تعويم أسعار الصرف الذي تمت المصادقة عليه في مؤتمر صندوق النقدي في جامايكـا سنـة 1986م.
أثرت السياسة الداخلية للولايات المتحدة الأمريكية في النظام العالمـي بشكل كبير, و بنهاية عام 1971م تحولت أمريكا بسبب حرب الفيتنـام من دائـن إـلى مديـن, بالإضافة إلى عوامل أخرى مثل الإرتفاع الشديد في أسعار الطاقة, و التقلبـات الحادة في أسعار صرف العملات الرئيسية التي أدت إلى تقليص قدرة الدول المتقدمـة على الإبقاء على معدل نمو اقتصادي كاف لاستمرار توليـد فرص العمل, و تنفيذ البرامج التي بدأت في الخمسينات و الستينات.
و كـان لأزمة البترول في السبعينات أثرها البالغ في تفشي حالـة من التضخم في الدول المتقدمة, و تدهور الإنتاجيـة و الكفاءة, بالإضافة إلى التزايد النسبي للقدرة التنافسية لعدد من الاقتصاديات المتوجهة حديثا نحو التصنيع, و تزايد نطاق و حجم المنافسة, الأمـر الذي عزز من توجهات الدول نحو التكتل الإقتصادي, و تكريس مزيد من الحماية ضد الدول خارج نطاق التكتل.
مما أصاب الإقتصاد العالمي بحالة من التراجع استوجبت إعادة هيكلة النظام الإقتصادي العالـمـي, و مـع انتهاء الحرب الباردة, تحقق المزيد من النحو للعلاقات الطبيعية بين مختلف الدول, و بدأت القيود السياسية على التجارة في التلاشي, و برزت توجهات جديدة مثل التوجـه نحو الإقليميـة الذي يعزز في جوهره العودة للجغرافيا –وليس السياسة- كمحدد رئيسي لتدفق التجارة بين الدول, و أصبح بالتالي الإعتماد الإقتصادي المتبادل ظاهـرة عالميـة.
كما نسجل ظهور قوى جديدة على الساحة الدولية, و التي سعت إلى تبوأ مكانة دولية مرموقة, سواءا كدول منفردة, أو كمجموعات تتسق مواقفها فيما بينها لتكتسب القدرة على حماية مصالحها.
لقد أثارت هذه التداعيات المتلاحقة للوضع الدولي تساؤلات حـول كيفية صياغة العملية السياسية العالمية اللازمة للحفاظ على الإقتصاد العالمي مفتوحـاً و متعد الأطراف, خاصة في ظل التوجهات الجديدة الداعية إلى مزيد من التكتل الإقليمي, بالتوازي مع الجهود الدوليـة في الإطار متعدد الأطراف, لضمان استمرار و توسيع نطاق تحرير التجارة الدولية, خاصة في ظل مجموعة المشاكل التي ظهرت كنتيجة مباشرة لتغير الوضع الدولـي, و أبرز هذه المشاكـل: ( )
1- ظهور و تنامي أوجه التباين بين حلفاء الماضي المعسكر الرأسمالي, نظرا لاختفاء الرابطة الناجمة عن مواجهة المعسكر الغربي لعدد مشترك.
2- استمرار الولايات المتحدة في الإحتفاظ بوضع القوة المهيمنة الرئيسية, حيث أنها تميل إلى الأسلوب الفردي في اتخاذ القرارات و تطبيق السياسات اتجاه الموضوعات الدولية المختلفة, بالإضافة إلى الأسلوب الأمريكي في تطبيق تشريعاتها الوطنية خارج الحدود لصيانة مصالحها التجارية.
3- تعرض الدول الصناعية لمجموعة من التحديات, خاصة على الصعيد الإقتصادي و مشكلات العمالة و التوظيف, و تأثير الإتفاقيات التجارية الدولية على أوضاع مواطنيها, مما جعل البعد الداخلي أكثر أهمية و محورية و متمتعا بالأولوية على البعد الدولي.
4- بروز لاعبين جدد في الإقتصاد العالمي الجديد, خاصة في منطقة شرق آسيا و اليابان و الصيـن, يعد هذا المتغير الجديد أحد أهم المؤثرات التي أسهمت بشكل مباشر في صياغة توجهات الإقتصاد العالـمي, و تفسر جانبا كبيرا من الاتجاهات الجديدة و السياسات التي تطبقها القوة الإقتصادية الكبرى لإعادة ترتيب الأوضاع, بهدف ضمان احتفاظها بقدرتها التنافسية و نصيبها في السوق.
و يسمكن تحديد هذه القوى الجديدة في الآتي: الإتحـاد الأوروبـي, اليابـان, الصيـن, النمور الآسيويـة (كوريا الجنوبية, ماليزيـا, اندونيسيـا, هونغ كونـغ, تايـوان, تايلانـد), هذه الأخيرة التي استحقت لقب الدول حديثة التصنيع (NICS) بفضل تحقيقها لمعدلات نمو تصل في أحيان كثيرة إلى %10 و التي نقلتها إلى مشارف البلدان الصناعية المتقدمة, و قـد نجحت عن طريق الهندسة العكسيـة, (1) و الاقتباس في تطوير تكنولوجيا تناسب امكاناتها و ظروفهـا فأكسبتها قدرة تنافسية متزايدة و نصيبا ملائماً في السوق العالمـي, رغم ما لحق بهذه الدول من أزمة مالية طاحنة في أواخر 1997م.
بالإضافة إلى القوة التي ذكرناها نجد "الـدول الناميـة المتقدمـة" و هذه الدول تضم عدداً من دول أمريكا اللاتينية و بعض الدول الآسيويـة مثل: (الفلبين, الهند, باكستان, و بدرجة أقل بنغلادش), و إن يرق التقدم الذي وصلت إليه مستوى ما أنجزته النمور الآسيوية, و كذا إفريقيا: حيث نجد مصر, نيجيريا, جنوب إفريقيـا, إذ طبقت هذه الدول برامج طموحة للإصلاح الإقتصادي.
تزامنت هذه التغيرات الجذرية في الهيكل الدولي للتوازنات و العلاقات مع ثلاثة متغيرات أساسية على الصعيد العالمي أسهمت في صياغة نمط جديد للتوجه الإقتصادي و التجاري الدولي:
المتغير الأول:
شروع العديد من الدول في تكوين التكتلات الإقتصادية سبه الإقليمية و الإقليمية و غير الإقليمية, على أساس تحرير التبادل التجاري بين أعضاء التكتل, و تعزيز التعاون الإقتصادي و التكنولوجي, و تنسيق القواعد التي تحكم التجارة فيما بينها, مثل الإجراءات الجمركية...
فظهرت في أمريكـا اللاتينية تجمعات: كالسوق الجنوبـي (ميركرسور), الكاريبـي (كاريكـوم) و في آسيا تجمع الأسيـان, لدول جنوب شرق آسيا, و في إفريقيـا السوق المشتركة لجنوب و شرق إفريقيا (كوسيسا).
و ظهرت على صعيد آخـر التكتلات الكبرى التي أطلقت عليها المجالات الإقتصادية الكبرى, على غرار "منطقة التجـارة الحـرة لأمريكـا الشماليـة" التي أعلنت عام 1992م, و هي تضم (كندا, المكسيك, الولايات المتحدة, منتدى التعاون الإقتصادي لآسيا و الباسيفيكي (أبيك) الذي يضم 18دولة من آسيا و الأمريكيتين, و تحول المجموعة الأوروبية من حالة السوق المشتركة إلى حالة الإتحاد بموجب معاهدة ماسترخت عام 1991م, و التي تزيل كافة القيود أمام تدفق التجارة في السلع و الخدمات, و انتقال رؤوس الأموال و الأشخاص, و التوصل لعملة موحدة في 1998-04-27م.
المتغير الثاني:
التوصل لإطار متعدد الأطراف لإدارة النشاط التجاري الدولي بكافة جوانبه المباشرة و غير المباشرة, بما في ذلك التجارة الغير المنظورة (تجارة الخدمات), و إجراءات الإستثمار و حقوق الملكية الفكرية, على أساس اتفاقية الجات لعام 1947م, و التي أسفـرت جولتها الأخيرة للمفاوضات (جولـة الأورجواي) عن إنشاء منظمة التجارة العالمية و التي تشرف على 28 وثيقة ثانوية لتحرير التجارة الدولية.